المواقف البطولية في غزوة بني قريظة
في اليوم الذي رجع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد غزوة الأحزاب جاءه جبريل عند الظهر وقال : أو قد وضعت السلاح؟ فإن الملائكة لم تضع أسلحتها ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم ، فانهض بمن معك إلى بني قريظة ، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم ، وأقذف في قلوبهم الرعب ، فسار جبريل في موكبه من الملائكة1 . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس : من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة . وخلال هذه الغزوة حدثت عدة مواقف بطولية نذكر منها ما يلي :
65ـ موقف أبي لبابة :
وصل الجيش الإسلامي إلى بني قريظة ، وفرضوا عليهم الحصار ، ولما اشتد عليهم الحصار وحدث ما حدث رأوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لبابة نستشيره ، وكان حليفاً لهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهن النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم ، وقالوا : يا أبا لبابة : أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال : نعم! وأشار إلى حلقه بيده ، يقول أنه الذبح ، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضى على وجهه ، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد النبوي بالمدينة ، فربط نفسه بسارية المسجد ، وحلف أن لايحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ـ وكان قد استبطأه ـ قال : (( أما إنه لو جاءني لاستغفرت له ، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه ))2 .
66ـ موقف سعد بن معاذ :
على الرغم من إشارة أبي لبابة عن حكم الرسول نزلت بني قريظة على حكمه صلى الله عليه وسلم فأمر باعتقال الرجال ، وجعلت النساء والذراري في ناحية ، وقامت الأوس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج ، وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم ، فقال : (( ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ )) قالوا : بلى . قال : (( فذاك إلى سعد بن معاذ )) . قالوا : قد رضينا .
فأرسل إلى سعد ، وكان في المدينة ، لم يخرج معهم للجرح الذي أصاب أكحله في معركة الخندق فأركب حماراً، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يقولون وهم كنفيه : يا سعد ، أجمل في مواليك فأحسن فيهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك لتحسن فيهم ، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً ، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى إليهم القوم . ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة : قوموا إلى سيدكم فلما أنزلوه قالوا : يا سعد ، إن هؤلاء عليهم؟ قالوا : نعم ، قال : وعلى المسلمين؟ قالوا : نعم . قال : وعلى من ها هنا؟ ـ وأعرض بوجهه ـ وأشار إلى ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وتعظيماً ـ قال : (( نعم وعليّ )) . قال : فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال ، وتسبى الذرية ، وتقسم الأموال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات )) . وكان حكمه في غاية العدل والإنصاف فإن بني قريظة بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع كانوا أجمعوا لإبادة المسلمين ألفاً وخمسمائة ترس حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم3 .
67ـ موقف عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ :
في مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ، حرّض رأس المنافقين عبد الله بن أُبيّ ابن سلول الناس ضد رسول الله وقال مقالته التي فضحه بها القرآن الكريم : (لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ )4 . وكان ابن هذا المنافق صحابياً جليلاً هو : عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ ، وهو من خيار الصحابة ، وقف لأبيه عند وادي العقيق ـ في الطريق لإلى المدينة ـ فجعل يتصفح الركاب ، حتى مر أبوه فأناخ به ثم وطىء على يد راحلته ، فقال أبوه : ما تريد يا لكع؟ قال : والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلم من الأذل من الأعز ، أنت أم رسول الله؟ فمن مرّ به من المسلمين يرفده عبد الله ـ أي يسمح له بالمرور ـ ويمنع غير ذلك . ويقول5 : تصنع هذا بأبيك؟ حتى مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقيل : عبد الله بن عبد الله بن أبي يأبى أن يأذن لأبيه حتى تأذن له ، فمرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله واطىء على يد راحلة أبيه ، وابن أبي يقول : لأنا أذل من الصبيان ، لأنا أذل من النساء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( خل عن أبيك )) ، فخلى عنه6 .
ويستأذن الصحابي الجليل عبد الله رسول الله في قتل أبيه رأس المنافقين7 فيقول : يا رسول الله إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه ، فمرني به ، فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا ، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها ـ يعني المدينة ـ رجل أبر بوالديه مني ، وما أَكَلَ طعاماً منذ كذا وكذا من الدهر ولا شرب شراباً إلا بيدي ، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأدخل النار ، وعفوك أفضل ومنّك أعظم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا عبد الله ما أردت قتله ولا أمرت به ، ولنحسنن له صحبته ما كان بين أظهرنا )) ، فقال عبد الله : إن أبي كان أهل هذه البحيرة قد اتسقوا عليه لَيُتَوِّجوه عليهم ، فجاء الله بك فوضعه الله ورفعنا بك ، ومعه قوم يطوفون به يذكرونه أموراً قد غلب الله عليها . هذا الإيمان الذي عمر قلب الصحابي عبد الله فأشرقت في نفسه شمس الحق وشرح الله صدره ، فلم يبق في قلبه مكان إلا لحب الله سبحانه وتعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب المؤمنين . أصبح ينظر إلى الأمور بمنظار الإيمان ويزنها بميزان الحق والعدل فما وافق شرع الله فهو المقصود ، وما خالف فلا هوادة لدى عبد الله في محاربته ومعاداته والوقوف في وجهه ، ولو كان ذلك المخالف أباً رحيماً أو أماً رؤوماً أو أخاً كريماً أو ابناً باراً ، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم : (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {22})1 .
منقول