قال الله تعالى:
{ يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور * إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}.
قال بعضهم: " الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا".
شبهت الدنيا برجل رأى في منامه ما يحب وما يكره، فبينما هو كذلك انتبه من نومه فإذا ليس في يديه شيء مما رأى. فالدنيا كحكم ماض أو ظل زائل، وطالبها ـ وكلنا يطلبها ـ مثل شارب البحر، يزداد عطشا حتى يموت.
للإنسان ثلاثة أحوال: حال قبل أن يخلق، وحال بعد أن يموت، وحال بينهما.
- فأما الحال قبل الخلق فإنها طويلة لا بداية لها.
- وأما الحال بعد الموت فإنها طويلة لا نهاية لها.
- والذي بينهما هو الدنيا، وهي قصيرة جدا بالنسبة إليهما.
فمن نظر بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبال كيف انقضت أيامه فيها؛ في ضرر أو ضيق، أو في سعة أو رفاهية.و
لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( مالي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال تحت شجرة ثم تركها وراح). [الترمذي]
هذه الدنيا لم توصف إلا بأدنى الأوصاف، وصفت: باللعنة، والغرور، والمتاع وغير ذلك. قال تعالى:
- { وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع }.
- { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.
- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها). [الترمذي]
وإذا كانت ملعونة فإن من أحبها أضر بآخرته، كما أن من أحب آخرته أضر بدنياه، والعقل يقضي: أن نؤثر المحمود على الملعون.
وكيف لا تكون الدنيا ملعونة، وهي التي لا تزن عند الله جناحة بعوضة، ولو زنت ما سقى الكافر منها شربة ماء؟. وكيف لا تكون ملعونة، وهي سجن المؤمن، وجنة الكافر؟.
كان بعض الصالحين يقول لأصحابه: " انطلقوا حتى أريكم الدنيا، فيذهب بهم إلى مزبلة، فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم"، قال أبو طاهر السِلفي في معجم السفر ص453:
أنشدني أبو الحجاج يوسف بن عبد الجبار بن مسعدة السبتي بمصر، بعد قفوله من الحج وتوجهه إلى المغرب، للمؤدب محرز التونسي الزاهد، وقد أنشدني له غير ابن مسعدة هذا: (انظر إلى الأطلال كيف تغيرت ... من بعد ساكنها وكيف تنكرت )
( سحب البلى أذياله برسومها ... فتهدمت أخبارهم وتكسرت )
( ومضى جميع الخلق منها مسرعا ... فتغيبت أحجارها وتسترت )
( أكل التراب لحومهم وعظامهم ... فتقطعت أوصالهم وتنثرت )
( لما نظرت تفكرا لقبورهم ... سحت جفوني ماءها فتحدرت )
( لو كنت أعقل ما أفقت من البكا ... حسبي هناك ومقلتي ما أبصرت )
( نصبت لنا الدنيا زخارف حسنها ... مكرا بنا وخديعة ما فترت )
( فهي التي لم تحل قط لذائق ... إلا تغير طعمها فتمررت )
( خداعة بجمالها إن أقبلت ... مجاعة بزوالها إن أدبرت )
( وهابة سلابة لهباتها ... خرابة لجديد ما هي عمرت )
( ماذا من الأمم السوالف أهلكت ... لو أنها نطقت بذاك لخبرت )
( طلابها في سكرة من حبها ... غدرت بهم وبذاتهم قد غررت )
( إلا القليل فأين هم بل أين هم ... الفائزون إذا الجحيم تسعرت )
( يا رب فيك وإن عصيتك مطمعي ... فاستر علي إذا الأمور تعذرت )
( وامنن علي برحمة يوما ترى ... عند الحساب نفوسنا ما أخرت)
كتب الحسن البصري إلى أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز كتابا فيه:
" أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين؛ فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، فاحذر هذه الدنيا الغرارة الخداعة، سرورها مشوب بالحزن، فلو أن الخالق لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عنها زاجر؟.
فما لها عند الله قدر ولا وزن، ما نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا محمد مفاتيحها وخزائنها، فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه.
زواها الله عن الصالحين اختيارا، وبسطها لأعدائه اغترارا، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؟، ونسي ما صنع الله بمحمد عليه الصلاة والسلام حين شد على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر به، إلا كان قد نقص عقله، وعجز رأيه".
قال رسول الله: ( ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع). [مسلم]
قد أصبح الكلام في ذم الدنيا عند كثير من الناس ممجوجا، فالمادية والمتاع غزت جماهير البشر مسلمهم وكافرهم، فإذا كنت محدث الناس، فحدثهم:
كيف يصرفون الأموال التي بأيديهم، وكيف يقتصدون في النفقة، وكيف يبنون حياتهم.
لا تحدثهم عن التقلل من الدنيا، أو الزهد فيها، والاكتفاء بما يقيم صلبهم.
لا تحدثهم عن خطورة الإغراق في شهوات الدنيا ومباهجها. فإنهم لن يسمعوا لك، بل ربما ضحكوا على عقلك وعدوك صوفيا أو باعثا لدين الرهبان !!.
فالناس إلا القليل على صنفين:
صنف مغرق في الدنيا ناس للآخرة. فهو يضيق بالكلام الذي فيه ذم الدنيا، لأنها رأس ماله، وليس عنده استعداد للتضحية برأس ماله.
وصنف يعلم فضل الآخرة ودناءة الدنيا، لكن الشيطان لبس على عقله، فصار يعتقد أن قوة المسلمين لاتتكامل إلا بالإقبال على الدنيا، ومضارعة الكافرين في اتخاذ متاع الدنيا، ونسي أن سر قوة المسلمين وسبب علوهم على الكافرين هو: تعظيمهم لما عظم الله، واستهانتهم بكل ما أهانه الله. والدنيا عند الله مهانة، فلما أهانوها أعزهم الله، لأنهم اتبعوا مرضاته، أهانوها بأن صارت في أيديهم لا في قلوبهم، كما قيل للإمام أحمد:
" أيكون الرجل زاهدا وعنده مائة ألف دينار؟، قال: نعم، بشرط ألا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت".
وما أخذوا منها إلا ما ينفعهم في آخرتهم، وتركوا ما يضر دينهم، فليس معنى الزهد في الدنيا تركها بالكلية، والانزواء في تكية أو رباط، وليس معناه ترك إعداد القوة، التي بها يرهب العدو، وإنما معناه ترك ما يضر في الآخرة..
* * *
قال تعالى:
{واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}.
قال رسول الله: ( موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها). [البخاري]
لا ندري هل ضعف إيماننا، أم غابت عقولنا؟!!.
نسمع مثل هذه العبر، من الآيات والخبر، فلا نتحرك في طلب الآخرة، ولا نجتهد في الإعراض عن الدنيا، وكأن تلك الأخبار من أساطير الأولين، أو من أحاديث القاصين، وإذا اجتهد واعظ في تحذيرنا قلنا له:
" كلام مكرور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، نعرفها على مر الدهور، وتقلب العصور، ولو حدثتنا بشيء غيره لكنا عليك من المقبلين، وإلى حديثك مشتاقين".
والعجب أن هذا الذي نمل من ذكره، كثير الذكر والتنويه بشأنه في كتاب رب العالمين وسنة نبيه الأمين، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).
وهذا فيه تنبيه ظاهر لمن تأمل وأحضر للنظر عقلا سليما أن منزلة الدنيا عند المؤمن غير منزلتها عند الكافر، فالكافر غاية آماله ومنتهى متاعه إنما يكون في الدنيا، قال تعالى:
{قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور}.
لذا فهو يجتهد في بنائها وزخرفتها، يسعى في شهواتها لنيل أعظم ما فيها من الملذات، أما المؤمن فإن الله قد وعده خيرا في الآخرة، وبين له أن إقباله على الدنيا فيه إضرار بخير الآخرة؛ فلذا يعيش مرتقبا حذرا، منتظرا لحظة النجاة والخروج من السجن، لا وقت لديه لأن يسعى في مباهج الحياة الدنيا.
فهل نرى مثل هذا الفرق بين المسلمين والكافرين اليوم؟.
للأسف لا نرى ذلك الفرق إلا ما ندر، إلا من رحم الله !!!.
إن المسلمين يسعون في الدنيا كما يسعى الكفار، لا نقول إنهم يسعون في اكتساب النافع، كلا، بل هم يسعون في شهوات الدنيا الضارة، كما يسعى فيها أولئك الهالكون؛
يبنون البيوت وهي غاية في الزخرفة والتزيين، تماما مثل أولئك !!.
وفي مطعهم، وملبسهم، وأشيائهم هم غاية في الترف، وكان ينبغي لهم أن يترفعوا عن الترف، لأنه من أوصاف أهل النار: { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين}.
وملهاتهم ملهاة الكافرين نفسها؛ مهرجانات، وملاهي ألعاب، ومسليات، وأولمبياد.. إلخ.
هذا ليس من السبيل، فلا بد للمسلم أن ينظر صفات الكافرين أهل النار في القرآن فيخالفهم فيها، فمن صفاتهم أنهم يحبون الدنيا، فمخالفتهم كراهيتها