منح "نجلا كيليك" ما يسمّى ب"جائزة الحرية" من جانب مؤسسة تابعة للحزب الليبرالي في ألمانيا في هذا الوقت بالذات (2010م) مثال نموذجي على كثير من الخطوات والأنشطة المشابهة، التي ازدادت تواتراً في العقد الأول من القرن الميلادي الحادي والعشرين، بتجرؤ أكبر بكثير ممّا لفت الأنظار إليه أيّام سلمان رشدي وأمثاله من قبل، ولكن مع فارق جذري.. فما كان يجري تمريره دون "معارضة غربيّة" في حينه، أصبح اليوم موضع خلاف شديد بين الأصوليين العلمانيين ممّن لا يزالون يسيطرون على مفاصل القرار في مواقع عديدة، وبين روّاد فئاتٍ تزداد عدداً وقدرةً على رفض تلك الممارسات المتناقضة مع شعارات كلامية مرفوعة وأهداف رسمية معلنة بصدد التعامل مع وجود الإسلام والمسلمين في بلد غربي.
مدرسة دعم الإساءات بالجوائز
قد لا يستدعي "الحدث" بحدّ ذاته التوقف عنده، فجوائز التقدير والتكريم تتعرّض لتمييع مغزاها وضياع مفعولها بما يناقض الغرض الذي أنشئت في الأصل من أجله، عندما يصبح توزيعها وسيلةً لأغراض أخرى، بصورة مكشوفة إلى حد بعيد. كما أنّ نجلا كيليك بالذات –وهي موضع الحديث كمثال آنيّ هنا- أبعد ما تكون عن صناعة حدثٍ يتطلّب التأمّل المتعمّق فيه، وسبق أن حصلت على "جوائز مشابهة" وسط ظروف مماثلة، ولكن لم يمنع ذلك –مثلا- من أنّ أسلوبها التهجّمي الغوغائي تجاه الإسلام نفسه، ناهيك عن التنديد بممارسات المسلمين التي تختارها أسلوب انتقائي.. تعميمي، كان –كما أكّدت وسائل إعلام ألمانية عديدة- سببَ استثنائها من تشكيلةٍ جديدةٍ للجولة الثانية من مشروع "مؤتمر الإسلام في ألمانيا"، رغم أنّ وزير الداخلية الألماني توماس دي ميزييه، ليس بعيداً عن الرغبة في تطويع الإسلام للعلمنة، إنّما تجاوزت كيليك خلال السنوات الثلاث السابقة أثناء الجولة الأولى من المشروع نفسه الخطوطَ الحمراء فلم يعد يمكن تسويغ وجودها بين من يختارهم وزير الداخلية من "أفراد مسلمين" من الحياة العامة، يجمع غالبَهم تبنّي العلمانية بقوّة، لتشكيل "الطرف الإسلامي" في المؤتمر بمشاركة ممثلي أهمّ المنظمات الإسلامية المعتبرة، للحوار مع ممثلي الدولة الرسميين.
قد لا يستدعي "الحدث" بحدّ ذاته وقفة مطوّلة، إنّما يفيد النظرُ فيه لبيان عددٍ من الأمور من خلال مثال نموذجي من واقع الساعة الحاضرة، في مقدّمتها:
1- كيف تجري "صناعة أسماء" صنعا، ثم تُستخدم "إنجازاتها" في إفساد دعوات التسامح الإنساني والحوار الحضاري والاندماج الإيجابي بصدد وجود الإسلام والمسلمين في بلد غربي.
2- كيف توظّف جوائز عديدة تحت عناوين ثقافية وسياسية في كثير من الأحيان لإثارة الجدل ومضاعفة الاختلاف بدلاً من استخدامها -كما ينبغي في الأصل- لتكريم مَن يقدّمون إنجازات إيجابية حقيقية على صعيد المجتمع وما يحتاج إليه لترسيخ ما يسمّى السلم الاجتماعي.
3- كيف تنطوي الانتقادات الموجّهة للمسلمين، بمعنى وقوعهم في أخطاء أو حتى في انحرافات في تطبيق الإسلام، على استهداف الإسلام نفسه، وليس على الرغبة في تصحيح الأخطاء وما قد يترتب عليها.
4- ما طرأ من تطوّر "إيجابي" بالمقابل، من حيث أنّ الساحة الثقافية والفكرية والإعلامية وحتى السياسية نفسها، لم تعد موضع احتكار مطلق لجهات أصولية عدائية مهيمنة، فالاعتراضات المنصفة متنامية، وتشمل فريقا من أصحاب الفكر والقلم وبعض صانعي القرار من ذوي القدرة على التأثير الفعّال، وهؤلاء في ازدياد.. تدريجيا على الأقلّ.
هذا ما دفع إلى تسجيل الفقرات التالية مع حلول موعد تسليم جائزة، عنوانها "جائزة الحرية" كما تطلق عليها "مؤسسة فريدريك ناومان" التابعة للحزب الليبرالي في ألمانيا (اسمه الرسمي: حزب الديمقراطيين الأحرار) وقد خصّصتها في عام 2010م كما أُعلن في منتصف العام، للكاتبة والمستشارة في الشؤون الاجتماعية، نجلا كيليك، وموعدُ تسليمها يوم السبت 6/11/2010م.
الشهرة.. على سلّم التشهير
من هي نجلا كيليك؟.. جميع ما تتناقله وسائل الإعلام عنها يعتمد –إضافة إلى بعض المعلومات المعروفة من خلال أنشطتها العامّة- على ما كتبته هي عن نفسها في نطاق كتابٍ نشرته عام 2005م بعنوان "العروس الغريبة"، وقصدت به زواج شباب مسلمين من أصل تركي في ألمانيا بفتيات مسلمات من تركيا. وقد تلقّفت الأوساط العلمانية في وسائل الإعلام ذلك الكتاب في حينه بترحاب كبير، إذ كانت الحملة على الإسلام في أوجها أثناء وصول ما سمّي "الحرب ضد الإرهاب" إلى مداها الأقصى.. عسكريا وثقافيا وتقنينا يحاصر ما سبق وعُرف بالصحوة الإسلامية، ويوجّه الضربات إلى التوجّهات الوسطية وليس "المتطرّفة" بالضرورة!..
تقول عن نفسها إنّ أسرتها شركسيّة الأصل، عاشت في تركيا، وهاجرت إلى ألمانيا عام 1966م، وكانت الأسرة تعيش –كما تقول هي- حياةً علمانيةً غربية الصبغة في تركيا، ولكن أقبل أفراد الأسرة على الإسلام في ألمانيا.. وسرعان ما تربط كيليك هذا الإقبال بأنّ أباها كان من وراء "فرض الالتزام الإسلامي فرضا" وتتحدّث عن أنّه حظر عليها مثلاً المشاركة في حصّة الرياضة المدرسية، وتضيف: "كيلا تفقد عذريتها وتدنّس شرف الأسرة"، بل تزعم أنّه هدّدها بالقتل!.. وتقول إنّ أخاها وأختها "خضعا" للسيطرة الأبوية أمّا هي فعانت من الانقباض نفسانيا، وعوّضت ذلك بالاجتهاد في دراستها، ولكن بلغت درجة "الغربة" بينها وبين أبيها حدّاً دفع بها إلى الهروب من الحياة الأسروية.
إذا صدقت هذه الأقوال فقد يصحّ ما يقول به ناقدوها من الكتّاب الألمان، ومحوره أنّها عانت من تجربة شخصية، فانعكست معاناتها فيما تمارسه من تهجّم عشوائي على الإسلام والمسلمين في الوقت الحاضر.
إنّما يوجد ما يستدعي التشكيك في أقوالها تلك، الواردة في كتاب "العروس الغريبة" من عام 2005م، والتي استهدفت من خلاله التشنيع بظاهرة "إكراه المسلمات على الزواج" و"التربية القائمة على السيطرة الذكورية".. والحصيلة أنّ الإسلام يعرقل الاندماج في مجتمع غربي حرّ، ومصدرُ التشكيك كلامُها هي نفسها، فقد سبق ونشرت عام 2002م أقوالا مغايرة تماما، في كتابٍ سابقٍ بعنوان "الإسلام في الحياة اليومية للتلاميذ والتلميذات من أصول تركية"، قام على نص رسالة الدكتوراة التي كتبتها من قبل.
الأهمّ من هذا التناقض الظاهر هو وجود فارق جوهري في إعداد الكتابين.. مضمونا وأسلوبا:
1- التزمت في الرسالة الجامعية بالأسلوب العلمي في البحث، فهذا ما لا يمكن التهاون فيه للحصول على درجة الدكتوراة في ألمانيا.. وهنا وصلت بالمضمون إلى نتيجة حاسمة تقول: "إنّ الإسلام يمكّن الأطفال والناشئة من الملاءمة بين احتياجاتهم وتميّزهم"، وأن "تديّنهم لا يمثل عقبة في وجه اندماجهم بل هو نموذجٌ يعيشونه في تطوّرهم الثقافي".
2- أمّا الكتاب الصادر عام 2005م، فلم يعتمد المنهج العلمي في البحث، بل يشهد محتواه.. ويشهد "جميع" ما كُتب حوله بما في ذلك بأقلام مَن يؤيّدون المحتوى (مع تسويغات مختلفة) أنّه مجرّد خليط "عاطفي غير علمي" من سرد لقطات مطوّلة من سيرةٍ ذاتية، ولقطاتٍ أخرى من حكايا انتقائية توردها دون توثيق عن حياة نساءٍ تركياتٍ في ألمانيا، ثمّ الربط بصياغة "أدبية" بين مقولاتها الذاتية وبين نتائج تقول بها دراسات "علمية" ما، ولكن دون وجود مسوّغ منهجي لذلك الربط، كي تصل في النهاية إلى حصيلةٍ معاكسةٍ تماماً لِما قالت به هي نفسها عبر البحث العلمي قبل 3 سنوات فقط، وهي أنّ "التقاليد التركية والتديّن الإسلامي عقبتان في وجه الاندماج"!..
هذا جانبٌ واحدٌ من جوانب عديدة مشابهة، ورد بعضها في مذكرةٍ على شكل "خطاب مفتوح" حول سياسة الاندماج، وقّع عليه ستّون من العلماء المتخصصين في العلوم الاجتماعية، ومنهم طائفة متخصصة في البحوث العلمية حول الاندماج تحديدا، ونُشرت المذكرة في أسبوعيّة "دي تسايت" المرموقة يوم 2/2/2006م، لتؤكّد أنّ ما تطرحه نجلا كيليك ليس له أيّ قيمة علمية. ونصّ المذكرة من صياغة الكاتب الصحفي والعالم النفساني مارك تيركيسيديس من كولونيا وبروفيسورة ياسيمين كاركاشوجلو، من كليّة "ثقافة ما بين الحضارات" في جامعة بريمن شمال ألمانيا، وجاء فيها مثلا: "بعد أن سلكت كيليك طريق البحث العلمي سابقا، لجأت الآن إلى أساليب التعميم لتصل إلى نقيض ما سبق أن رسّخته علميا في كتابها الأول، معتمدةً على حالات فردية لتجعل منها نماذج شاملة للمسلمين ذوي الخلفيّات الأجنبية".
وفي شهادة أخرى من بين شهادات عديدة حول ذلك الكتاب ما تُدلي بها عالمة الاجتماع، الأستاذة الجامعية في إيرلانجن، بروفيسورة إليزابيت بيك جيرنسهايم، في مقالة نشرتها صحيفة "داس بارلامنت" الرسمية للمجلس النيابي الاتحادي في 2/1/2006م، وجاء فيها:
"ما كتبته نجلا كيليك شكوى، حافلة بأدلّة فضفاضة تعميمية... لا يحتوي الكتاب على معلومات موثقة ليمكن التأكّد من صحتها، بل تستخدم الكاتبة مصطلحاتٍ أساسيةً بأسلوب تعميمي، فالزواج المتفق عليه أسروياً هو زواجٌ بالإكراه بنظرها، ولا يوجد شيء يمكن استخلاصه حول ما تعتمد هي عليه فيما تطرحه من مقولاتٍ وأحكام، إذ تستخرجه من حواراتٍ شخصيةٍ مع بعض النساء التركيات –لَسْنَ عيّنة- وتضعه في إطار أجزاء عديدة من فسيفساء انطباعاتها الشخصية، ثمّ تقول إنّ هذا يجري في نطاق كافّة الأسر التركية في ألمانيا، وهذا قول مشكوكٌ في سلامته بالموازين العلمية المنهجية، بل هو قول متهوّر، ولكن يجد صداه في وسائل الإعلام ولدى الرأي العام".
وفي العبارة الأخيرة تنويه مهم.. فربّما كان النقد الشديد من جهاتٍ لها مكانتها، والردود الغوغائية من جانب كيليك، المثيرة إعلاميا، واحداً من أسباب صناعة ضجّةٍ ساهمت في الصعود على سلّم الشهرة عبر التشهير بالإسلام، ولكنّه ليس السبب الوحيد.. فتأييد "التشهير" تأييداً مباشراً سببٌ آخر، وقد وجد ذلك مَن يمارسه ولا يزال يجد، كما تشهد "جائزة الحرية" نفسها!
الإشادة بأسلوب غوغائي
لم يكن الكتاب نفسه هو الدافع لنشر تلك المذكرة من جانب 60 عالما، وكذلك الانتقادات العديدة من جانب المتخصّصين على غرار جيرنسهايم، إنّما كان فيما وجدتْه كيليك من تحرّك ناشط من جانب صانعي الإعلام للإشادة بكتاب لا قيمة له علميا، وهذا ما وصل بها إلى الأوساط الرسمية، ومن ذلك مثلا أنّ ريناتي شميدت، الوزيرة الألمانية الاتحادية لشؤون الأسرة والمسنّين والنساء والشبيبة آنذاك، استصدرت دراسةً موسّعة (1111 صفحة) وكلّفت نجلا كيليك بالمشاركة في إعدادها، ونُشرت الدراسة رسمياً عام 2006م، والواقع أن الوزارة نفسها احتاطت لنفسها، فحذّرت من تعميم الصور المطروحة حول واقع النساء المسلمات من جذور تركية في ألمانيا، لأنّ "الحالات المعتمدة كأمثلة في الدراسة كانت معدودة، لا تعطي صورة شاملة".. إنّما سارع أصحاب الاهتمام الجادّ بقضايا الاندماج الإسلامي في المجتمع الألماني، وقد ازداد عددهم بتأثير ظهور عدوانيّة الحرب العسكرية وغير العسكرية ضدّ الإسلام والمسلمين.. سارعوا من خلال مذكّرتهم تلك، وكتاباتهم، إلى التحذير الجادّ من دراسةٍ يجري تبنّيها رسميا، وتؤدّي إلى نقيض المطلوب منها في الأصل، وهذا رغم تحفظ الوزارة الاحتياطي على بعض محتوياتها.
ويلفت النظر أيضا:
1- التزامن بين تكليف كيليك بالمشاركة في الدراسة الرسمية عام 2004م، وبين خروجها في العام نفسه من منصب تدريس "الاندماج في نطاق علم الاجتماع" الذي كانت تشغله منذ 1999م في "المعهد العالي للكنيسة البروتستانتية لشؤون التربية الاجتماعية" في مدينة هامبورج شمال ألمانيا، وكانت قد كتبت في إطار عملها هذا رسالة الدكتوراة التي تقول: "ليس الإسلام عقبة في وجه الاندماج".
2- أنّ كتابها المنهجي الأوّل أخذ مكانه في الساحة الفكرية دون ضجّة "إعلامية" كبيرة.. وكأنّ السبب هو مضمونه الإيجابيّ نسبيا، أمّا كتابها الثاني بعنوان "العروس الغريبة" فوجد على الفور تجاوبا "علمانيا" واسع النطاق، فأحدث "ضجّة إعلامية" لتأييد ما ورد فيه دون مستندات منهجية علمية.. وآنذاك حصلت كيليك على أولى جوائز "تكريمها": جائزة الأخوين شول الثقافية.
3- لا يخفى التناقض بين ما ورد عن كتابها الثاني (بما في ذلك تقريظه في وسائل الإعلام مع الإقرار بأنّه "عاطفيّ.. وليس علميا") وبين ما خُصّصت له الجائزة المذكورة عند تأسيسها عام 1980 من جانب رابطة محلية بولاية بافاريا في نطاق اتحاد دور نشر الكتب الألماني، وبمشاركة إدارة مدينة ميونيخ، من أجل: "تقديرٍ سنوي لكتاب "يعبّر عن الاستقلال الفكري، ويتلاءم مع تشجيع حريات المواطن ودعم الجرأة الأخلاقية والثقافية والجمالية ويعكس دوافع هامة للوعي بالمسؤولية"!..
4- حتى في كلمة التكريم للكاتبة عند تسليم تلك الجائزة، كان لا بدّ للحقوقي والناشر هيريبرت بانتل، من الحذر في صياغة كلماته الديبلوماسية، وهذا مع استفاضته في الحديث عن غلبة "الغضب الشخصي.. والانفعالات" في الكتاب الذي اعتبره "ضربة تنبيه!".. بينما لم يرد في كلمته شيء يؤكّد وجود "قيمة منهجية علمية" له!..
5- إنّ الإشادة الإعلامية بهذا الكتاب.. وإهمال ما سبقه، وانطلاق تلك الإشادة بمؤلّفته لحظة تحوّلها من موقف منهجي إيجابي نسبياً تجاه الإسلام.. إلى موقف تعميمي ضده، يمثّل سلوكاً متكرّراً تمارسه الجهات المسيطرة من أصحاب التوجّهات العلمانية الأصولية في عالم النشر والإعلام في ألمانيا (عموما.. فلم يعد يمكن القول إنّه يصدر عن جهل أو "خوف مرضي من الإسلام") فيساهم مباشرة في صناعة أجواء العداء للإسلام والتخويف المرضي منه، بصورة تواكب الهجمة العسكرية والشاملة عليه منذ إعلانه "عدوّاً بديلا" فور سقوط الشيوعية.
بقايا تأثير مشكاة الافتراء
تشهد مذكّرة العلماء الستين وكتابات العديد من المتخصصين حول أطروحات كيليك وأسلوبها، على وجود كثير من أصحاب الفكر والقلم، ومن المسؤولين، الذين يشعرون بخطر مثل تلك الأطروحات على المجتمع الألماني نفسه، وليس على "الاندماج الإيجابي" للمسلمين فيه، أو على التعدّد الحضاري والثقافي عموما.
ويلاحظ هنا أنّ كيليك لم تخرج كثيراً عن أسلوبها في الدفاع عن نفسها، المنسجم تماماً مع روح إثارة "الضجة والضجّة المضادة في الإعلام" طريقا إلى الشهرة.. فكان من ذلك عدم التعرّض لمضمون الانتقادات، والتحوّل بدلاً من ذلك إلى تهجّم شخصي على منتقديها من العلماء الباحثين في قضايا الاندماج، وهم أصحاب المكانة في تخصصاتهم، كقولها مثلاً إنّهم ينتقدون أطروحاتها لأنّهم "حريصون على ما يحصلون عليه من أموال لمتابعة بحوثهم العلمية، وهم المسؤولون عن إخفاق الاندماج خلال السنوات الثلاثين الماضية"!!
أمّا الآخرون ممّن يدافعون عن كيليك وما تقول فمن أشهر نماذجهم "آليس شفارتسر" التي تُعتبر من "قدامى المحاربات" على جبهات صراع المرأة ضدّ الرجل والمجتمع "الذكوري" التي وُلدت في رحم ما يوصف بـ"الثورة الجنسية" عام 1968م، (وكيليك من الكاتبات في مجلةٍ تصدرها شفارتسر بعنوان" إيمّا").. وقد كُلّفت شفارتسر بالذات الآن بإلقاء كلمة التكريم عند استلام كيليك جائزتها الجديدة، من جانب مؤسسة "فريدريك ناومان" التابعة للحزب الليبرالي.
ومن نماذج المدافعين أيضاً "تيلو سارازين" الذي اختارها لتكون إلى جانبه في مؤتمر صحفي حاول أن يدافع فيه عن نفسه إزاء الانتقادات الحادّة التي واجهها نتيجة اتّهامه التعميمي لمسلمي ألمانيا بالغباء، وقد اعتبر كيليك خلال المؤتمر الصحفي دليلاً على أنّه لم يقصد التعميم.. فمن بين المسلمين يوجد "أمثالها" أيضا –حسب قوله- ممّن لا تشملهم مقولاته.. أي "وصمة الغباء"!..
أمّا "الأدلّة" على أنّها "ليست من المسلمين الأغبياء" فمنها كأمثلة:
1- قولها في مقابلةٍ مع "فرانكفورتر آلجيماينه" يوم 22/1/2010م: "أدعو إلى إصلاح الإسلام وتحوّل المسلمين إلى علمانيين يكتفون بالروحانيات الدينية... لقد عفا الزمن على محاولة تطبيق التعاليم الدينية في الحياة اليومية، عبر التقاليد أو القوانين، لقد عفا الزمن عن الشريعة..".
2- وقولها في مقابلة مع "راينيشه بوسط" يوم 15/4/2010م: "لا أعرف في أيّ حضارة شيئاً يماثل هذا التمييز العنصري ضدّ النساء" –تقصد كما في الإسلام- وتضيف إنّها لا تعتبر هذا ناشئاً عن تفسير الإسلام تفسيراً خاطئاً بل هو "من صنع القرآن الذي يدعو إلى ضرب المرأة وحبسها إن عصت زوجها".
3- وقد يتبيّن المقصود بصورة أوضح من خلال ما ورد على لسانها في برنامج "منتدى الجمعة" يوم 16/7/2010م، في قناة التلفاز الألمانية الثانية: "إن الرجل المسلم في أعين إخوته وأخواته من المسلمين والمسلمات رجلُ جنسٍ يريد أن يفرّغ ما لديه باستمرار، فإن لم يجد امرأة يمكن أن يلجأ إلى حيوانٍ من الحيوانات" وتضيف أنّ هذه الرؤية منتشرة بين "الشعب" –تقصد عموم المسلمين"- فهي أمر متفق عليه..
وقد جاء تعقيباً على هذا "الافتراء الصارخ" في الموقع الشبكي "محبة الحرية".. تحت عنوان تهكّمي "جائزة الحرية لكيليك.. متى يحصل سارازين على جائزة الاندماج؟..": "ليس لهذه المقولة أيّ قيمة ذاتية، فهي دون مستوى الصفر... ولا علاقة لكيليك إطلاقاً بأي جهدٍ من أجل تعايش سلمي، بل هي تدعم الانشقاقات الاجتماعية، والآن يجري تكريمها لهذا السبب!".
المستقبل لمشكاة الإنصاف
أمام ما سبق لا بدّ ابتداءً من استغراب أن يصل الأمر في تعليل المؤسسة "الليبرالية" قرارَها إلى درجة استخدام عباراتٍ صارخة من حيث تناقضها مع الواقع المشهود، كعبارة تقول: إنّها "تكرّم في نجلا كيليك امرأة تساهم في النقاش الدائر حول الاندماج بروح الصراحة والمصداقية غير مبالية بالمخاطر التي تتعرّض لها".. أو عبارة تقول: إنّها "دليل حيّ على غياب التناقض بين الإسلام ومنظومة القيم الغربية الديمقراطية القائمة على الحرية.. وقد اتخذت لنفسها موقعا لصالح الحرية، فهي مثال نموذجي واضح على قابلية اندماج المسلمين اندماجاً جدياً في مجتمع القيم الأوروبية، وهي الممثلة المعاصرة للتنوير"!..
تُعتبر الكاتبة لميا قدّور من المسلمات "المتحرّرات المتنوّرات" وأسّست مؤخراً "الرابطة الإسلامية الليبرالية" إلاّ أنّها لا تستطيع تقبّل –أو هضم- ما تقول به كيليك، فتقول: "إن مؤسسة فريدريك ناومان لا تساهم بهذه الجائزة بقسط في التفاهم بل تزرع وتدا بين الفئات الشعبية المتعددة".
والواقع أنّ التكريم بجائزة جديدة ليس اعتباطيا، ولا نتيجة جهلٍ محض قطعا، بل هو مقصود بحدّ ذاته، على نهج واضح سبق الإشادةَ بآيات رشدي الشيطانية، ووصل إلى تكريم صاحب "الإساءات الكاريكاتورية" –قبل أسابيع معدودة، ولا تتناقض أغراضه مع ما يراد الآن في التعامل مع افتراءاتٍ غوغائية أخرى.
إنّما يظهر الإحساس بمخاطر ذلك النهج المنحرف، وينعكس هذا الإحساس بقوّة تتنامى في الأوساط الفكرية والإعلامية نفسها، ومثل ذلك ردود الأفعال الآن على قرار المؤسسة "الليبرالية" المذكورة، تكريمَ كيليك بجائزة "الحرية" لعام 2010م، وهي الجائزة السابعة التي تحصل عليها من الأوساط العلمانية الأصولية على تعدّد مشاربها، ولا داعي للحديث عنها، فلن يتجاوز ما سبق ذكره بشأن أولى تلك الجوائز (الأخوين شول) عام 2005م، ولا يختلف عمّا يواكب جائزةَ "الحرية" السابعة الحالية.
يمكن إيراد استشهادات عديدة بهذا الصدد، إنّما يكفي اختيار بعض ما صدر عن أعضاء بارزين في الحزب الليبرالي نفسه، بمن فيهم الناطق الرسمي لشؤون الاندماج باسم الحزب سيركان تورين، الذي قال في مقابلة مع القناة الثانية للتلفزة الألمانية، إنّه لم يكن من قبل معجبا بكيليك، لأنّها "أصبحت تمارس انتقاداتٍ تعميميةٍ للإسلام بدلاً من انتقاد ظروفٍ سيّئة تستحقّ الانتقاد".. "وإنّ تهجّماتها تُفقدها صلاحيةَ الخوض في شؤون سياسة الاندماج".. وأشار إلى عباراتها المذكورة آنفاً عن الرجل المسلم الجنسي.. بقوله إنّ "ما ذكرته كيلك مؤخراّ في منتدى الجمعة سيّء للغاية ويصل بها إلى درجة التمييز العنصري".. و"لم يعد يمكن اعتبارها متخصصة اجتماعية جادّة".
وفي موقع "سياسة دينية منفتحة" ينوّه سفِن سبير، المتخصص في العلوم السياسية من جامعة منستر، وعضو لجنة الشؤون الكنسية والدينية والتصورات العالمية التابعة لحزب الليبراليين نفسه.. ينوّه باستطلاع للرأي من عام 2009م كشف عن أنّ تأييد حزبه بين الناخبين المسلمين في ألمانيا دون 1 في المائة مقابل 9,4 في المائة لصالح حزب اليسار و10,1 في المائة لاتحاد الحزبين المسيحيين، و23،3 في المائة لصالح الخضر، و55,5 في المائة لصالح الديمقراطيين الاشتراكيين.. ثم يضيف: "عندما تستلم نجلا كيليك جائزة الحرية سيكون ذلك إشارةً واضحةً من جانب الحزب الليبرالي ضدّ اندماج المسلمين في المجتمع، وليست هذه خطوةً مؤسفةً مرفوضةً فحسب، بل هي خطوةٌ متهورةٌ حمقاء أيضا".
المصدر: أون إسلام