وبذلك تكون حياته كلها لله..و أنفاسه كلها ملكاً له..يبذل الغالي و النفيس في سبيل إرضائه..وقد تعرض له بعض العوارض و الفتن..فيصبر و يحتسب ويلتجأ إلى من بيده رفعها عنه..لأنه قد تيقن بأن من ترك الراحة وجد الراحة..و أن الإنسان ممتحن و مبتلى و الصبر هو طوق النجاة..و لا نجاح في امتحان الدنيا بدونه..فيتصبر في أدق لحظات حياته المريرة مع أن قلبه قادر على الجزع و التسخط ..و كلما زينت له نفسه ذلك ترائت أمامه جنات عدن و الفردوس الأعلى..فيحدث نفسه قائلاً..أيا نفس اصبري فالموعد الجنة..لأنه جرب حلاوة الإيمان و مرارة الضلال فاختار الأجود و الأسمى..فلولا أن عرف طعم المرارة لما تلذذ بطعم الحلاوة..و لولا معرفته قسوة الحزن لما تلذذ بطعم السعادة..و لولا تجربته وحشة المعصية لما تلذذ بحلاوة الطاعة..فكانت المشيئة السماوية معالجة لطبيعة النفس البشرية و الخالق وحده بمن خلق أعلم!!!
و في بعض الأحيان تزل تلك النفس المؤمنة فتضعف..و لا يكون ذلك إلا بعد ان تبتعد و لو قليلاً عن منهل تلك القوة..و لكن ما تلبث إلا أن تعود..مستغفرة تائبة ترجو رحمة ربها الغفور الرحيم الذي قال: ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً).. فتعود أقوى مما كانت لأنها استشعرت معنى أن تفقد تلك اللذة الإيمانية و لو للحظات!!!
و المؤمن بهذه الحياة الإيمانية غريب في نفسه..غريب بين أهله و إخوانه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إن الإسلام بدأ غريباً و سيعود غريباً فطوبى للغرباء،قال: و من الغرباء؟ قال: (الذين يصلحون إذا فسد الناس)حديث حسن..و كلما زاد ذلك الإيمان زادت درجة الغربة..حتى يجد المؤمن نفسه في عالم آخر..فهو مع الناس بجسده و في ذلك العالم بقلبه..قلب متعلق بربه..يراقبه بنور إيمانه.. و يلجأ إليه مع كل نفس من أنفاسه..يفر إليه كلما ضعف إيمانه..فإن سبح بلسانه فالقلب ساكن لعظمته..و إن ترك شيئاً لوجهه فالوجد سابح بلذة طاعته.. و إن عمل صالحاً فالفؤاد راضخ لأمره و نهيه في كل حب و اطمئنان.
و هو بذلك في حصن ربه..يحميه بفراره إليه ممن يتربص به و يكييد له..يقيه بطاعته من كل ما يعرض له من فتن في دينه و إيمانه..يحميه أولاً من شر نفسه و من شر مخلوقاته..فهو بذلك قد احتمى بربه بعد أن اكتسب بقربه منه مصلاً ذاتياً يصرف عنه كل مايعرض لدينه أو يهزه..و لم يأت ذلك المصل إلا بعد أن أيقن أنه لا حول و لا قوة له إلا بربه..فهو الضعيف بنفسه القوي بربه..و هو الذليل بذاته العزيز بدينه..و هو بذلك في أمس الحاجة إلى ربه لينصره و يثبِته أمام فتن الدنيا و ابتلائاتها..فإن فتن هذا الزمان قد تشربت ماتشربت من القلوب فسكنتها..فلم تعد تفرق بين الحق و الباطل..قال حذيفة: لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك!!إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق و الباطل.
ولم يكن ذلك إلا بعد أن ابتعدت القلوب عن منهل قوتها و عزتها..وانشغلت بدنياها الزائلة الفانية..فنزلت همتها إلى التراب بعد أن كانت تحلق في السماء..و لكن في خضم نيران الفتنة المترامية و شعاراتها المتصاعدة تبقى فئة صامدة ثابتة تمثلت في حديث النبي صلى الله عليه و سلم
يأتي عليكم زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر)..تلك الفئة عانت و مازالت تعاني ألم الجمر و حرقته..ومع ذلك صمدت و ثبتت..فكلما سولت لها أنفسها أن ترمي ذلك الجمر تذكرت حرقة الحياة ومرارتها بدونه!!فزادها ذلك ثباتاً و صموداً..فهاهي ترى تلك الجراح الغامرة في قبضتها و لكن تأبى إلا و الثبات,, إلا و الانتصار!!فالإنتصار على النفس هو الانتصار الحقيقي لتلك القلوب التي أشربت معين الحياة الطيبة بالقرب من الله!!قال تعالى(من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) إنها مشاعر إيمانية من نوع فريد..لا يطيق القلم تسطيرها..و لا تستطيع الألسنة و صفها..إنها مشاعر القوة و العزة في وقت الضعف و الذلة..مزيج غريب يناسب تلك الغربة و يحاكيها..غربة تستحق المعايشة و التجربة..فلنسمو بأنفسنا معها متسلحين بقوله تعالى: ( معي ربي سيهدين)..
و نهاية المطاف الكل يعرفها.. نعيم دائم بعد عناء السفر الطويل.. وراحة أبدية مع أول قدم توضع في جنات عدن..
في هذه اللحظة توضع نقطة النهاية..نهاية الصبر و التحمل.. نهاية الصراع و الجهاد..نهاية لها مصيران لا ثالث لهما..إماسعادة أبدية..و إما شقاء دائم..فلنكن من أبطال السعادة الأبدية..سعادة لا شقاء بعدها أبدا!!!!!