في عام 1959م،كان (جون ناش) البالغ في حينها ثلاثين سنة واحداً من أشهر العقول في اختصاص الرياضيات.وحصل على الأستاذية (أي بروفيسور) بهذا العمر عندما كان يدرّس في المعهد التقني بولاية ماساشوستس.وكان يدهش الجميع بأن يحل مشكلات رياضية يستحيل مع الآخرين حلها بطريقة غير تقليدية.واستطاع،وهو لا يزال طالب دراسات عليا أن يقدم فكرة (التوازن) في(نظرية اللعبة) Game Theoryالتي أحدثت مؤخراً ثورة في ميدان الاقتصاد، ونال عليها جائزة نوبل.
وتروي زوجته (سيلفيا) أن زوجها (ناش) ظهرت لديه تصرفات غريبة الأطوار، ثم ساءت حالته بأن أخذ يكتب رسائل الى (FBI) ومؤسسات ووكالات حكومية أخرى يؤكد فيها أن هناك مؤامرات عالمية على وشك أن تحدث.ثم صار يتحدث علناً في محاضراته الجامعية عن أن قوى من الفضاء الخارجي ومن حكومات
أخرى تتصل به عبر الصفحة الأولى من مجلة (New York Times). وصار يرى أشخاصاً بأربطة عنق حمراء (وهميين طبعاً) يدورون حول المجمع الذي يسكن فيه،معتقداً أنهم من المخابرات الروسية (الشيوعية). ونظراً لأوهامه وهلاوسه وسلوكه الذي صار خطراً،أدخلته زوجته في مستشفى للأمراض العقلية في نيسان 1959م،فشخصه الأطباء بأنه مصاب بـ(الفصام الزوري)Paranoid Schizophrenia،الذي يعني تحديداً: ((متلازمة تتصف بالأوهام والهلاوس التي تتضمن أفكاراً اضطهادية وعظمة)).وبعد خضوعه لعلاج طبي دوائي وتحليل نفسي،تحسنت حالة (ناش) الذي كان يقضي معظم أوقاته في المستشفى مع الشاعر المشهور آنذاك (روبرت لويل) المصاب هو الآخر بـ(الاكتئاب الهوسي). تعلم (ناش) أن يخفي أوهامه وهلاوسه،ويتصرف بعقلانية، بالرغم من أنه كان يعانيها في داخله. وخرج من المستشفى، وأقسم أن يتخلص من كونه مواطناً أمريكياً، فسافر الى جنيف وأتلف جوازه الأمريكي.لكنه اضطر بعد سنتين الى العودة. وظهرت عليه أعراض جديدة من الشيزوفرينيا. فلقد أخذ يرتدي ثياب فلاح روسي، ويتحدث عن السلام العالمي، وضرورة وجود حكومة عالمية واحدة. وبعث برسائل وأجرى اتصالات هاتفية يتحدث فيها عن نظريات رياضية وشؤون عالمية، الأمر الذي دعا المسؤولين في الجامعة والأصدقاء والأطباء النفسانيين أن يلحوا على زوجته لإدخاله المستشفى مرة أخرى، ففعلت. وتلقى فيه علاج الأنسولين والرجات الكهربائية الشائعة الاستعمال في الستينيات. فتحسنت حالته وغادر في عمر الثالثة والثلاثين، وعاد الى البحث العلمي مركزاً هذه المرة في (توازنات التمايز الجزئي). وبدأت تظهر عليه من جديد اختلالات في تفكيره وكلامه وسلوكه. فأدخلته زوجته في مستشفى خصوصي هذه المرة، قضى فيه خمسة أشهر من العلاج النفسي والدوائي.وبعد مغادرته، قام اصدقاؤه بمساعدته من جديد على انجاز ابحاثه. فكتب مقالات مميزة،نشرت في مجلات علمية رائدة.غير أن الذهانات الحادة ظلت تأتيه من وقت لآخر الى السبعينيات والثمانينيات، حيث تحسنت حالته تدريجياً وتعافى من الشيزوفرينيا بالرغم من عدم تناوله لأي علاج، الأمر الذي أثار دهشة الاختصاصيين، الذين لم يجدوا تفسيراً لشفائه الا في رعاية زوجته ومداراتها له وعلاقتها الحميمة به،وفي الإسناد الدائم له من أصدقائه في اختصاص الرياضيات. واصل (ناش) أبحاثه العلمية،ومنح جائزة نوبل في الاقتصاد لمساهماته الأصيلة والمبتكرة في (نظرية اللعبة)، التي أحدثت- كما أشرنا- ثورة في حقل الاقتصاد.وهو يعيش الآن مع زوجته (إليسا) في برنستون، ويواصل عمله في ابتكار نظريات في الرياضيات.ويرعى في الوقت نفسه ابنه (جوني) الحاصل على الدكتوراه في الرياضيات أيضاً،والمصاب بنفس مرض أبيه (فصام البارانويا). وفضلاً عن ما لقيه من تكريم،فقد كرمته السينما ايضاً بانتاجها فلماً عنه بعنوان (عقل جميل) Beautiful Mind.